"الأستاذ مصطفى".. قصص تسخو بحنين إلى البراءة والبداهة والبساطة

Jun 08, 2020

يبدو أبطال قصص مجموعة "الأستاذ مصطفى" للأديب مجدي خلاف في حنين دائم إلى أيام الطفولة والبراءة والبداهة في القرية، وهم يعانون من الفقد والاغتراب، سواء بسبب السفر بعيدًا إلى الخليج، أو قريبًا حيث سُكنى المدينة، أو بفعل التقدم في الزمن، الذي يورثهم شيبًا بعد شباب، وينقلهم من عالم بسيط واضح إلى آخر معقد مركب في ظل التقدم التقني الرهيب، الذي إن اضطروا إلى التفاعل معه، فإنهم يتوجسون منه، وتجرفهم، وهم في قلبه، رغبة عارمة في العودة إلى البساطة، ولا تسعفهم في هذا سوى الذاكرة العفية الجلية، التي بوسعها أن تستعيد كل شيء على حاله القديمة.

تحوي المجموعة إحدى عشرة قصة، منها عشرٌ تدور أحداثها في القرية، إما بعودة الراوي إليها؛ لتكون كل المكان في القصة، وإما باستدعائها إلى مكانه في المدينة، وفي المسارين تحل مقارنة بين زمانين وحالين وموقفين وثقافتين، ينتصر فيه الكاتب دوما للزمن القديم، بطرائقه في العيش، وقيمه. وتسعى القصص إلى إظهار ما تعرضت له التصرفات والمعاني التي كانت سائدة في زمن ولى من انتهاك بفعل التحديث أو العصرنة، التي أوجدت طفرة في عالم الأشياء أو الموجودات المادية على حساب إيجابيات من قبيل القناعة والبساطة والتعاون والصبر وفهم ضرورة بناء الإنسان، باعتبارها غاية لا فكاك منها.

فقصة "الأستاذ مصطفى" التي صارت عنوان المجموعة كلها تنبئنا عن مدرس لغة عربية كان ملهما لتلاميذه، بفصاحته ووطنيته وشجاعته، لكنه لا يلبث أن ينال الزمن من روحه ودوره وجسده، فيعود من إعارة إلى إحدى دول الخليج، جعلها تمتد برفض العودة بعد انتهاء مدتها الرسمية فيبقى هناك، ثم يبني عمارة فوق أرض زراعية، بالمخالفة للقانون، ويسخو في تقديم رشاوٍ لموظفي المحليات، فيهدمون بيوت الفلاحين الفقراء حوله، ويتركون له ما بناه، وفيه ما للسكن وما للتجارة. تبقى عمارته واقفة لكنه هو يسقط في عيني أحد تلاميذه، الذي صار ضابط شرطة، مطلوب منه النظر في هذه المخالفة.

إن هذا التغيير الذي حدث لـ"مصطفى" لم يجر مثله على بطل قصة "باب الخوخة"، الذي لم ينس وهو مع ابنه في "المول"، لشراء باب مصفح إلكتروني لحمايتهم من اللصوص، ذلك الباب الخشبي العتيق الكبير في دارهم القديمة في الريف، الذي كان أهله يتركونه مفتوحًا في الليل، وينامون مطمئنين. يتكرر الأمر بطريقة أخرى في قصة "يا مسهرني"، فبينما جلس الأولاد الصغار يحملقون في الشاشات اللامعة للهواتف الذكية والحواسيب المحمولة، بحث الأب في حاسوبه عن أغنية لأم كلثوم، وراح يستعيد معها مسار حياته القديمة، وهنا يقول:

"سافر بعيدا في زمان الصبا والحب. هناك وقت الأصيل والشمس في طريقها إلى الرواح في آخر الشارع خلف الحقول الخضراء. أبواب البيوت الطينية، وقد بدأت تستقبل أسراب الفلاحين ودوابهم وأنعامهم في رحلة الإياب من الحقول".

وبطل قصة "حلم" ظل في شوق دائم لأيام كان بوسعه أن يقف حول "عربة فول" في الشارع، ويلتهم اللقيمات بين الناس غير عابئ بشيء من ذلك الذي يحذره منه الأطباء بعد أن تقدمت به السن، وسكنت جسده الأمراض. وبطل "رحلة ورقة" لا ينسيه التنقل من سكن بسيط إلى آخر فخيم تلك الورقة التي أرسلها إليه أبوه وهو في صباه يطمئنه على أحوال أهله ويخبره بأنه قد أرسل له مبلغا قليلا من المال يعينه في غربته. ولا يختلف حال بطل قصة "هي" الذي تنهمر في رأسه الذكريات حين ذهب إلى عيادة طبيبة عيون كانت زميلته في المرحلة الابتدائية، ويشعر بانجذاب نحوها، قد حضر حين جلس أمامها تفحصه، كأن السنين لم تمر، والبصر لم يضعف، في جسد أوهنته الأيام.

وهناك قصص تنتصر لقيم إيجابية، ريفية غالبًا، يفتقدها الراوي العليم في هذه القصص، أو تحن إليها شخصياتها، التي تبدو أشبه بشخصية واحدة موزعة على الوحدات السردية أو القصصية، وربما نتصور هذا؛ لأن الراوي واحد، يوزع قصصه بين ضميري "الغائب" و"الأنا".

فقصة "ورقة بعشرة" تنتصر لتحمل المسؤولية والإيثار، فبطلها طفل صغير، يحمل إلى مدرسته مع كتبه وكراساته وأقلامه، علبة مملوءة بالحلوى، يبيعها لزملائه الصغار في وقت الفسحة، ويحرم نفسه من التهام أي قطعة منها، ليسهم في الإنفاق على أمه. ويحتفظ هذا الطفل لنفسه بعشرة قروش يفردها في أحد كتبه، ويمني نفسه في أن ينفقها ذات يوم على ملذة من ملذات الحياة، لكن حين تمرض أمه، ويذهب لإحضار الدواء لها، يجد نفسه مضطرا إلى التخلي عن مدخراته، فيفعل هذا عن طيب خاطر.

وفي قصة "أبوالهم" نحن أمام فلاح أجير، محروم من الإنجاب، يكدح؛ لينفق على زوجته وأمه، ويصبر على هذا الحرمان، ويوصي زوجته بالصبر، وتجد الأسرة كلها سلوى في جاموسة ولود، تساعدهم في توفير نفقات المعيشة، يعاملونها في امتنان وإكبار، وكأن رحمها وحده يكفي؛ ليشعرهم بأن بيتهم البسيط لا يعدم تجديد الدم والنسل.

وتفضح قصة "جنازة الكبير" النفاق الذي يعشش في نفوس بعض الناس، حين يبالغون في إظهار حزن مصطنع على رجل ثري فاسد، كان يتبرع لمدرسة القرية وغيرها، بينما لا يحفلون بفقير توفي قبله بقليل، وهو أمر يثير غيظ بطل القصة، الذي يتابع متقززا جريان هذا الرياء، ولا يستطيع الصمت عليه، فيتحول في لحظة من مراقبة وترقب مفعم بالغيظ، إلى اعتراض على ما يحدث، وهو ما تنتهي به القصة قائلة:

"وجد شكري نفسه يمسك بمكبر الصوت، ويصرخ في هيستريا: اسمعوا جميعًا، اسمعوا جميعًا: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها... إلا التي كان قبل الموت يبنيها".

ولعل في قصة "النور"، ما يرسم معالم المجموعة كلها، فبطلاها باحث وباحثة، يستعدان للسفر إلى قرية نائية لبدء برنامج يقوم على العيش في مجتمع ريفي بدائي، يعتقد هو أنه يمثل "العصر الحجري" فتصحح له هي قائلة: "لنقل من معرفة الإنسان بالزراعة"، وذلك لزرع معارف وقيم واتجاهات تنويرية في أذهان بكر لم تلوثها "الحضارة الحديثة"، لكن تزامن مع وصولهم دخول الكهرباء إلى القرية؛ ليفسد كل شيء، ويتركهم الناس منصرفين عما يقولانه.

إن هذه القصة تلخص، لكن بطريقة مادية، كل النقلات المفجعة التي تعرض لها أبطال القصة، وهم ينتقلون إلى عالم يزداد في قواه المادية بفعل التصنيع وجانب من الاقتصاد الرقمي، ويظن أن هذا هو "التنوير" بينما هو "إظلام" من نوع آخر، أشبه بالتعبير الذين كان يقال من قبل، لكن في مسار آخر، كان يطلقه الليبراليون على الشيوعيين وهو: "تقدميون إلى الخلف"، فالتطور المادي لا يصاحبه احتفاظ بالقيم الإيجابية التي كانت تحل في الأفكار والممارسات القديمة.

بعيدًا عن الراوي، الذي ظل يظهر بشخصيات مختلفة الأدوار والأعمال، على مدار القصص جميعًا، فإن بقية الشخصيات تبدو أشبه ببطل القصة الأخيرة "التقرير"، الذي دفعته مبادئه؛ ليسجل ألوان الفساد في الشركة التي يعمل فيها، لكن الطمع والخوف وأشياء أخرى تجعل كل شخص مسكونا بعدة شخصيات، تدفعه إلى تمزيق تقريره، والتغافل عما تلزمه به مبادئه.

إن هذه المجموعة، تضرب مثلا مختلفا، في ألوان مثيلاتها، فهي ليست قصصًا متعددة في عوالمها وشخصياتها وموضوعاتها، وليست قصصًا متعددة لموضوع واحدٍ، إنما هي قصص متشابهة لموضوع متقارب أو متجانس. وهذا الحكم ليس تعسفا، ولا تطويعًا قسريًا لخدمة تصور نظري ما، بل هو مستنبت من هذه النصوص نفسها، التي تجمع بينها مشتركات في العوالم، وطبيعة الشخصيات، والتقنيات الفنية، مثل أداة الاسترجاع والراوي العليم، وكذلك أسلوب الكاتب، وربما الأهداف الخفية التي دفعته لكتابة هذه العمل، والتي قد يبدأ أدناها في التنفيس عن مكنون نفس يجرفها حنين إلى ما مضى في دنيا الطفولة والصبا بالقرية، ويصل أقصاها إلى رغبة في الانتصار لمسار في الحياة، ولعمر جميل، خسرناه في زحام التصنيع والأتمتة وما تبعهما من تحلل وانحلال واغتراب، دون أن يمتلك أبطال هذه القصص أي رغبة في التغيير أو قدرة على تحقيقه.

­

مواضيع متعلقة

التعليقات

إضافة تعليق