العالم والمفكر

May 11, 2021

يقول الروائي الإنجليزي "جوزيف كونراد" يبحث الفنان مثل المفكر والعالم عن الحقيقة، ويوجه ندائه تحت انطباع قوي بمظهر العالم. المفكر يغوض في الأفكار، والعالم يغوص في الحقائق ومنها يدلفان إلى استمالة تلك النواحي التي تكون جزءا من كياننا، لتهيئنا على خير وجه لعملية الحياة المحفوفة بالأخطار، فيتحدثان بكل ثقة إلى إدراكنا، إلى ذكائنا، إلى ميلنا إلى السلام، أو ميلنا إلى القلق، وفي أحيان غير قليلة يتحدثان إلى تحيزاتنا، وأحينانا إلى مخاوفنا، ومرارا إلى أنانيتنا، ولكنهما يخاطبان دائما قابليتنا للتصديق، وننصت نحن إلى كلماتهما بالتبجيل والاحترام، لأنهما مهتمان بأمور لها وزنها، مهتمان بتثقيف عقولنا، والعناية الصحيحة بأجسامنا، وبتحقيق طموحنا، وتحسين أحوالنا، وتمجيد أهدافنا الغالية. أما الفنان فأمره مختلف تمام الأختلاف. فعندما يواجه منظر العالم الغامض المحير هذا بعينه، فإنه ينزل إلى أعماق ذاته، وفي هذه المنطقة الموحشة من الضغط والنضال يجد إذا ما كان مستحقا وسعيد الحظ شروط استمالته، فهو يوجه ندائه إلى قدراتنا الأقل وضوحا، لذلك الجزء من طبيعتنا الذي يحفظ بالضرورة بعيدا عن الأنظار داخل الصفات الأكثر صلابة ومقاومة. إن نداء الفنان أقل ارتفاعا أكثر عمقا، وأقل وضوحا، وأكثر تحريكا للعواطف، والوجدان، وأسرع إلى النسيان من نداء المفكر، أو العالم، ولكن أثره يبقى إلى الأبد. إن الحكمة التي تتغير بتعاقب الأجيال تستبعد الأفكار، وتشك في صحة الحقائق، وتهدم النظريات، ولكن الفنان يخاطب جزءا من كياننا لا يعتمد على الحكمة، جزءا هو عطية وليس تحصيلا، ونتيجة لذلك فهو باق بشكل أكثر دواما. يخاطب الفنان قدرتنا على السرور والتعجب، والأحساس بالغموض الذي يكتنف حياتنا، يخاطب أحساسنا بالفقة والجمال والألم، يخاطب الأحساس الكامن بالزمالة مع كل الخليقة، والاقتناع الخفي الذي لا يقهر بالتضامن الذي يؤلف بين قلوب عديدة تشعر بالوحدة، فتتامن في أحلامها، وأفرحاها، وحزنها، وأمانيها، وأوهامها، وأمالها، وخوفها، وفي الأشياء التي تربط الرجل ببعضهم، وتربط الإنسانية كلها معا الميت بالحي، الحي بالذي لم يولد بعد.

­

مواضيع متعلقة

التعليقات

إضافة تعليق