إنّــهُ لَمِن دَواعِي سُرورِي أن يَرى هذا العَمَلُ النُّورَ، ولو في زَمَنٍ غَلَبَ علَيهِ الرُّكودُ، وانزَوى النّاسُ في بُيوتِهِم خَشْيَةَ جائِحَةٍ باغَتَتِ العالَمَ وأرْبَكَتْهُ، فقَد خَلَتِ الشَّوارِعُ مِن ضَجيجِها، وتَوَقَّفَ النّاسُ عن عاداتِهِم اليوميَّةِ، مِن سَعْيٍ في المَعاشِ، وزياراتٍ للأحِبَّةِ، ومَجالِسَ أنْسٍ ولِقاءٍ، إلى عُزلَةٍ مَفروضَةٍ، لم نَألفْها مِن قَبلُ، ولم نَجِدْ فيها إلّا السُّكونَ الثَّقيلَ والأرَقَ المُقيتَ.
وفي خِضَمِّ هذا الخُمودِ الجَسَديِّ، تَمَخَّضَ العَقلُ عن يَقَظَةٍ، فإذا بِبِذْرَةٍ قَديمَةٍ في نَفْسِي، طالَما راوَدَتْنِي ثُمَّ هجَرَتْنِي، تُعاوِدُ الظُّهورَ وتُطالِبُنِي بالوفاءِ، أن أَكتُبَ، لا على سَبيلِ التَّسْلِيَةِ، ولا تَرَفًا مُؤقَّتًا لِقَتْلِ الوَقْتِ، بل وَفاءً لِدَيْنٍ طَويلٍ طالَما قَدَّمَتْهُ لِي القِراءةُ، وَآنَ أوانُ السَّدادِ. فانطلَقتُ، لا أزْعُمُ احترافًا، إلى عالَمِ السَّرْدِ القَصَصيّ، ذلك البَحرُ المُتلاطِم، حيثُ الخَواطِرُ أَمواجٌ، والحكايا جُزُرٌ ومضائقُ، والعُبورُ يَحتاجُ إلى بوصلةٍ من وَعيٍ وصَبْرٍ على التَّكرار، وبَصيرةٍ لا تُخدَعُها بَريقُ اللُّغة، وتَبَيَّنَ لي، بعدَ حينٍ، أنَّ الصُّعوبةَ ليستْ في نُدرةِ الفِكرة، بل في فَيْضانِها، وتَداخُلِها، وتَشابُكِ خُيوطِها، حتى يَكادُ المرءُ لا يُفَرِّقُ بين أَوَّلِها وآخِرِها، إلّا بأنْ يُخضِعَها لمِجْهَرِ الفِكْرِ، وباعِثِ النَّقْدِ، وقَلَمِ التَّحريرِ، وذاكَ ما سَعَيْتُ إليه؛ أنْ أُرَتِّبَ الفَوْضى، وأُهَذِّبَ الزِّحام، دونَ أنْ أقتُلَ العَفويّةَ أو أُضَيِّعَ حَرارةَ الإلْهام، وقد عَوَّلْتُ في ذلك على ما مَلَكْتُه من زادٍ مَعرفيٍّ وشَغَفٍ أصيلٍ بالأدبِ والتَّاريخِ والسِّيَر، وما اختَزَنَتْه الذّاكرةُ من تجارِبِ القُرّاءِ والكُتّاب، عَرَبًا وعَجَمًا، قَديمًا وحديثًا. وأكادُ أجزِمُ، أنَّ الكاتِبَ، ما لمْ يَكُنْ هو أَوَّلَ ناقدٍ لنفسِه، وأصدقَ قارئٍ لعملِه، لن يَبلُغَ من الإتقانِ مَبلَغًا.